السبت، 17 ديسمبر 2011

رحلة العودة المكوكية ....



السلام عليكم ورحمة الله  

على غرار  كل يوم  انهيت عملي وأسرعت الخطوات قاصدا العودة الروتينة للبيت ....في طريق العودة نفس التفاصيل الشارع الرئيسي  للمدينة يحاول كعادته اعطاء صبغة الحركية والتنوع في الأشخاص وهذا شيئ طبيعي لشارع يتيم  يتوسط قلب المدينة. لكن بمجرد ان تطئ قدمي  أزقة الأحياء العتيقة أحس بالنمطية بكل تجلياتها في  جدران المنازل ووجوه الناس  أكاد أجزم احيانا بيني  وبين نفسي ان الزمن لا يتقدم بين هذه الدروب الضيقة ...أتوقع الحركات والسكون قبل مشاهدتها  ...حتى تقاسيم الناس أعرفها قبل مصادفتها ...فهدا هو سي الطيب كما عرفته مذ كان عمري سبع سنوات جالس بباب محله الذي يبوا أنه ورثه عن اليهود الذين أقامو بالمدينة القديمة  قبل هجرة الاستيطان  إلى فلسطين ....جالس كعادته على كرسيه الخشبي  العتيق يفترش من تحته قطع كرتون تغير لونها الى السواد الخفيف بسب دهون جسمه المترسبة فوقه  .  تعلو طبقات الكرتون  الرقيقة  قطعة جلد خروف أوكما نسميها بالعامية هيدورة  يبدو انها لأضحية عيد تجاوزت الثلاثين عاما ....مايثير استغرابي في  السي طيب رغم رتابة تقاسيمه وتقاسيم دكانه هو ذالك الطربوش الأخضر الذي يعلو صهوة رأسه الأصلع  والذي لايفارقه البتة صيفا أو شتاء ربيعا أو خريفا ... أحس أن له علاقة حميمية مع هدا الطربوش أجهل تفاصيلها .....على بعد خطوات قليلة تصطف النسوة الثلاث بائعات الخبز البلدي  هم ايضا مألوفون لدي بمعاركم الحامية حول التسابق لبيع  خبزهن لأي زبون محتمل  هن لاينتضرنك حتى تسأل عن ثمن الخبز بل يكفي ان ترمي بإحدى عينيك ناحيتهم حتى يبادرن في تسابق "خبز طري وسخون  " "خبز طري وسخون اسيدي"... أحس بإحراج طفيف إن فكرت في إقناء الخبز من إحداهن دون الأخرى  لدالك اتحاشهم في اغلب الأحيان حتى أصل الى اخر الدرب حيث دكان سي عبد السلام ...هؤلاء النسوة  أيضا بالنسبة لي صورة لا تتغير في معظم تفاصيلها ....

خطوات  تتلوى خطوات وقدماي تيسير بثبات على رصيف  اخذ الزمان منه مأخده ...حفر على اليمين  وترقيعات على اليسار ..طرف مرصف بحجارة ملاساء لامعة  من كثر ما احتكت بها اقدام المارة ...وجوانب اخرى مصطحة باسمنت  جاف غابت عنه  نسائم الماضي العبق ...... على صعوبة هده التضاريس احس اني لي القدرة على إغماض عيناي والسير  بثقة وثبات لا لشيئ سوى أنه الروتين اليومي ...إنه الروتين الذي تستطيع به أن تقود طائرة إيرباس وأنت في مقطورة المسافرين  تحتسي شاي الرحلة ......على جانب الرصيف دكاكين مظلمة بلا تهوية ولا منفذ صحي لأشعة الشمس  وجوه شاحبة  تتربع عروش  هذه القبور في إنتظار أحياء أموات  يخرجون من سراديبهم المحيطة بالحي يطالبون بزيت أو خميرة أو حتى نصف لترمن الحليب  لأم نفساء زادت الأرض ثقلا بمولود جديد ....

تلاصق المنازل في الأحياء القديمة له رونقه  الخاص وقت الظهيرة. فلا يخفى على أنف كل مار التمازج الغريب في روائح الطبخ المنبعثة من كل كوخ وسرداب ...تستطيع ان تميز رائحة السردين  المقلي المحشو بالتوابل  يتسلل من  المطبخ الشبح   للسيدة  ام  خليل كما أن دار السي التهامي تحاول بدوها أن تفرض موضع قدم على جو  الحي برائحة البقوليات المطهوة بقدر الظغط فزوجة السي تهامي مشاع انها تعشق البقوليات لدرجة انه قيل انها تختزنها وقت النذرة في براد الثلاجة .......كذالك حينا لا يخلوا من نسائم الفقر طيلة الأربعة وعشرين ساعة بل هناك أقذر الروائح التي تنبعث من الأواني البشرية  المتنقلة إنهم الأطفال الصغار المهملين من طرف أمهاتهم ....براءتهم تبعث على الإشمئزاز بل وتقتل كل رغبة في بناء أسرة وتبني أبناء ....توحي لي أشكالهم إلى ضرورة استصدار قانون يجرم الزواج على بعض العينات التي لا تعي معنى المسؤولية الأبوية ............لكن مما لايثير استغرابي في هذه القوقعة ان أشتم رائحة اللحم المشوي تخرج من بيت احدهم تتباهى في سماء روائحهم.....

....تبعدني  خطوات قليلة على باب منزلي وقد توسط هده الخطوات  محل السي حسن  الجندي المتقاعد الذي أفنى ثلثي عمره في خدمة الجيش وقد أكرمه نظام التقاعد براتب شهري لايكفي لقضاء ليلتين باءستين في فندق  تحت التصنيف ....أحييه كل صباح وكل مساء .رده ايضا روتيني ولا يغير شيئا من اللوحة النمطية .أتعمد أن أغير له عبارات التحية بين الفينة والأخرى لكنه متشبت  بنغمته الأصلية "أل الخير " " ال الخير "......أتقبلها على مضض أحتراما لما تحمله ذاكرته من أحداث تاريخية عايشها وصارت من التاريخ الذي لا يذكر بمقررات المدارس .........
أصل الى باب منزلي وقد اعددت المفاتيح سلفا بين أناملي لكن لايوفوتني  كالعادة أن ألقي تحية الحنين  إلى ذالك الباب الذي هو على مرئى من عيناي ..إنه حب الصبا وبراءة المشاعر ..رحل ساكنوه وشقوا تجاربهم في الحياة.. لكني لازلت أحتفظ بأطلالي وشاهد صباي 

أتسلل بهدوء في درج المنزل  وقد خلعت حدائي أسفله ...هي عادة تربيت عليها باللطف أحيانا وبالصراخ احيانا وبالعصا احيانا أخرى حتى لا تتسخ باحة المنزل بما   تلقفه حذائي حين العودة ...

أتنقل بين أرجاء المنزل ماسكا هذا وواضعا ذاك ..معدا ذالك ومتخلصا من الاخر....ثم بضغط زر أنسلخ عن عالمي بكل ما فيه من إطناب  لألج عالم أخر منحصر في مكانه بعيد في حدوده اسئل عن حال صديق افتراضي واستمع لأخر في سكون .....فتتولى  التدفقات على صندوقي العجيب إلى أن يصدر حكم  بنقل سيالة عصبية إلى أطراف جسدي أستلم على إثرها لنوم منتهى أحلامه  يوم مكوكي اخر في الانتظار  ...



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق